باب حد الزنا
الزاني (من أتى الفاحشة من قبل أو دبر من امرأة لا يملكها أو من غلام أو من فعل ذلك به). لا خلاف بين أهل العلم في أن من وطئ امرأة في قبلها لا شبهة له في وطئها أنه زان، فأما إن وطئها في دبرها فهو أيضا زان لأنه وطئ امرأة في فرجها ولا ملك له فيها ولا شبهة فكان زانيًا كما لو وطئ في القبل، ولأن اللّه سبحانه قال: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم} [1] الآية، ثم بين النبي -صلى الله عليه وسلم أن اللّه- قد جعل لهن سبيلاً: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام " [2]. والوطء الحرام في الدبر فاحشة لقوله سبحانه في قوم لوط: {أتأتون الفاحشة} [3] يعني الوطأ في أدبار الرجال.
مسألة: من تلوط بغلام فحكمه حكم الزاني في إحدى الروايتين، وفي الأخرى يقتل بالرجم بكرًا كان أو ثيبًا، وهو قول علي وابن عباس وجابر بن زيد، ووجه ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" رواه أبو داود [4]. وفي لفظ: "فاقتلوا الأعلى والأسفل " واحتج الإمام أحمد بعلي أنه كان يرى رجمه، ولأن اللّه تعالى عذب قوم لوط بالرجم فينبغي أن يعاقب بمثل ذلك، ودليل الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان" ولأنه إيلاج في فرج آدمي أشبه الإيلاج في فرج المرأة، وإذا ثبت أنه زان فيدخل في عموم قوله سبحانه: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [5]. وعموم الأخبار فيه.
مسألة: ومن (فعل ذلك به) يعني أن يكون زانيا إذا وطئ في الدبر رجلاً كان أو امرأة لقوله عليه السلام: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان". وأما إذا وطئ الرجل المرأة في دبرها فهو زان أيضًا لأنه وطئها في فرجها فأشبه وطأها في قبلها.
مسألة: (فحده الرجم إن كان محصنًا، أو جلد مائة وتغريب عام إن لم يكن محصنًا) فالزاني المحصن يجب عليه الرجم بالأحجار حتى يموت، لم يخالف في الرجم إلا الخوارج قالوا: الجلد للبكر والثيب لعموم آية الحد، قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن المرجوم يدام عليه الرجم حتى يموت. وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين وماعزًا حتى ماتوا، وعنه يجلد ثم يرجم، فعله علي وروي عن ابن عباس وأبي ذر وأبيّ وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز، ونص على الأولى الأثرم في سننه واختاره لأن جابرا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزًا ولم يجلده وقال "اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها". ولم يأمره بجلدها، ورجم الغامدية ولم يجلدها، ورجم عمر وعثمان ولم يجلدا، وهذا كان آخرًا فيجب تقديمه في العلم به، ولأن الحدود إذا اجتمعت وفيها قتل سقط ما سواه، وقال الأثرم: سمعت أبا عبد اللّه يقول في حديث عبادة: إنه أول حد نزل وإن حديث ماعز بعده رحمه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولم يجلده أو رجم عمر ولم يجلد، ولأنه حد يوجب القتل فلم يجب معه جلد كالردة. ونحو هذا نقل إسماعيل بن سعيد، ووجه الرواية الأخرى في قوله سبحانه: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} وهذا عام، ثم جاءت السنة بالرجم فوجب الجمع بينهما فروى عبادة بن الصامت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب" الجلد و (الرجم) رواه مسلم وأبو داود [6]. وهذا صريح ثابت بيقين لا يترك إلا بيقين مثله، والأحاديث الباقية ليست صريحة فإنه ذكر الرجم ولم يذكر الجلد فلا يعارض به الصريح، فعلى هذا يبدأ بالجلد أولاً ثم يرجم.
مسألة: (والمحصن هو الحر البالغ العاقل الذي قد وطئ زوجة مثله في هذه الصفات في قبلها في نكاح صحيح) وذلك أن الرجم لا يجب إلا على المحصن بإجماع أهل االعلم، وللإحصان شروط سبعة: الأول الحرية في قول أكثرهم، أما العبد والأمة فلا يجب عليهما الرجم لأن اللّه سبحانه قال: {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} والرجم لا يتنصف، وحكم العبد الأمة في ذلك. الشرط الثاني والثالث البلوغ والعقل، لقوله عليه السلام: "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم" [7]. فاعتبر الثيوبة خاصة، ولو كانت تحصل قبل ذلك لكان يؤدي إلى إيجاب الرجم على الصبي والمجنون، وهذا أولى من القياس: وقال بعض أصحاب الشافعي: الإحصان الوطء في النكاح الصحيح وسائر الشروط معتبرة للرجم لا للإحصان- ومعناه أنه لو وطئ من هو صبي أو مجنون في نكاح صحيح ثم عقل المجنون وبلغ الصبي وزنيا رجمًا لأنه وطء محل للزوج الأول فأشبه الوطء في حال الكمال، ولنا ما سبق. الشرط الرابع أن يوجد الكمال فيهما جميعًا حال الوطء فيطأ الرجل العاقل الحر امرأة عاقلة حرة، لأنه إذا كان أحدهما ناقصا لم يكمل الوطء ولا يحصل به الإحصان كما لو كانا غير كاملين. الخامس أن يكون الوطء في القبل ووطئ في الدبر أو فيما دون الفرج لم يحصل الإحصان لأنه ليس بمحل الوطء. السادس أن يكون في نكاح، ولا خلاف بين أهل العلم في أن الزنا ووطء الشبهة لا يضير به أحدهما محصنًا ولا نعلم بينهم خلافا في أن التسري لا يحصل به الإحصان لواحد منهما لكونه ليس بنكاح ولا تثبت فيه أحكامه. السابع أن يكون النكاح صحيحًا فإن كان فاسدًا لم يحصل به الإحصان لأنه وطء في غير ملك فأشبه وطء الشبهة.
مسألة: (ولا يثبت الزنا إلا بأحد أمرين: إقرار به أربع مرات مصرحًا بذكر حقيقته، أو شهادة أربعة رجال أحرار عدول يصفون الزنا وبجيئون في مجلس واحد ويتفقون على الشهادة بزنا واحد) وذلك أن الزنا إنما يثبت بأحد شيئين: إقرار أو بينة، فإن ثبت بإقرار اعتبر إقرار أربع مرات. وقال الشافعي وغيره: يحد بإقراره مرة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" وفي حديث الجهنية أنه رجمها، وإنما اعترفت مرة. ولأنه حق فأشبه سائر الحقوق. ولنا ما روى أبو هريرة قال: "أتى رجل من الأسلميين رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال: يا رسول اللّه إني زنيت فأعرض عنه، حتى ثنى ذلك أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: أبك جنون؟ قال: لا قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : "ارجموها" متفق عليه، ولو وجب الحد بمرة لم يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يجوز ترك حد وجب للّه سبحانه. وروى نعيم بن هزال حديثه وفيه "حتى قالها أربع مرات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك قد قلتها أربع مرات فيمن؟ قال: بفلانة" رواه أبو داود. وهذا تعليل منه يدل على أن إقرار الأربع هي الموجبة. وقد روى أبو بردة الأسلمي أن أبا بكر الصديق قال له عند النبي صلى الله عليه وسلم : إن أقررت أربعا رجمك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، فأقره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم ينكره فكان بمنزلة قوله، لأنه لا يقر على الخطأ، ولأن أبا بكر قد علم هذا من حكم النبي صلى الله عليه وسلم ، ولولا ذلك لما تجاسر على قوله بين يديه. فأما أحاديثهم فإن الاعتراف لفظ المصدر يقع على القليل والكثير، وحديثنا يفسره ويبين أن الاعتراف الذي ثبت به كان أربعا.
مسألة: ويعتبر أن يصرح بحقيقة الزنا لنزول الشبهة، لأن الزنا يعبر به عما لا يوجب الحد، وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز "لعلك قبلت. أو غمزت، أو نظرت. قال: لا. قال: أفنكتها- لا يكني- قال: نعم. فعند ذلك أمر برجمها" رواه البخاري، وفي رواية عن أبي هريرة قال " أنكتها؟ قال: نعم. قال: حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم. قال: كما يغيب المرود في المكحلة والرشأ في البئر؟ قال: نعم. قال: هل تدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حرامًا كما يأتي الرجل من امرأته حلالاً " وذكر الحديث، رواه أبو داود) [8].
مسألة: قد سبق أن الزنا إنما يثبت بأحد شيئين: إقرار أو بينة قد مضى الإقرار. وأما البينة فـ(شهادة أربعة رجال أحرار عدول يصفون الزنا) فيعتبر لشهود الزنا شروط: الأول أن يكونوا أربعة، وهذا إجماع لقوله سبحانه: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} وقال: {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم}. الشرط الثاني أن يكونوا رجالاً كلهم، فلا تقبل فيه شهادة النساء لأن في شهادتهن شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات. الثالث الحرية فلا تقبل فيه شهادة عبيد، لا نعلم في ذلك خلافًا إلا عن أبي ثور فإن شهادتهم عنده مقبولة، ولنا أنه مختلف في قبول شهادتهم في جميع الحقوق، فيكون ذلك شبهة في درء ما يدرأ بالشبهات. الرابع أن يكونوا عدولاً، ولا خلاف في اشتراطها. فإن العدالة مشترطة في سائر الشهادات وها هنا مع مزيد الاحتياط أولى، ويكونوا مسلمين ولا نعلم في هذا خلافًا، فلو شهد أربعة من أهل الذمة على ذمي أنه زنى بمسلمة فعليهم الحد، ولا حد على المشهود عليه. الخامس أن يصفوا الزنا فيقولوا رأينا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة والرشأ في البئر، لما روي في قصة ماعز لما أقر عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بالزنا قال "حتى غاب ذلك منك في ذلك منها كما يغيب المرود في المكحلة والرشأ في البئر؟ قال: نعم" دار إذا اعتبر التصريح في الإقرار كان اعتباره في الشهادة أولى، ولأنهم إذا لم يصفوا الزنا احتمل أن يكون المشهود به لا يوجب الحد فاعتبر كشفه.
مسألة: (ويجيئون في مجلس واحد) وهو شرط سادس في الشهود أن يأتوا الحاكم في مجلس واحد، وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم فعليهم الحد، وقيل: لا يشترط لقوله سبحانه: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء}[9] ولم يذكر المجلس، ولأن كل شهادة مقبولة إذا اتفقت تقبل و إن افترقت في مجالس كسائر الشهادات. ولنا أن عمر رضي الله عنه شهد عنده أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بالزنا ولم يشهد زياد فحد الثلاثة، ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدهم لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر، ولأنه لو شهد الثلاثة فحدهم ثم جاء الرابع فشهد لم تقبل شهادته، ولولا اشتراط المجلس لكملت شهادتهم به ويفارق هذا سائر الشهادات. وأما الآية فإنها لم تتعرض للشروط ولهذا لم تذكر العدالة وصفة الزنا.
مسألة: ويتشرط أن يتفقوا (على الشهادة بزنا واحد)، فلو شهد اثنان أنه زنى بها في هذا البيت واثنان أنه زنى بها في بيت آخر، أو شهد كل اثنين عليه بالزنا في بلد غير البلد الذي شهد به صاحباهما واختلفوا في اليوم فالجميع قذفة وعليهم الحد لأنهم لم تكمل شهادة أربعة على فعل واحد فوجب عليهم الحد كما لو انفرد بالشهادة اثنان وحدهما، وحكي عن الإمام أحمد رواية ثانية أنه يجب الحد على المشهود عليه لأن الشهادة قد كملت عليه وهو اختيار أبي بكر، قال أبو الخطاب: ظاهر هذه الرواية أنه لا يعتبر كمال الشهادة على فعل واحد. قال القاضي أبو بكر: لو شهد اثنان أنه زنى بها بيضاء وشهد اثنان أنه زنى بها سوداء فهم قذفة، وهذا ينقض عليه قوله: ولو شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية من هذا البيت وشهد اثنان أنه زني بها في زاوية أخرى منه، فإن كانت الزاويتان متباعدتين بحيث لا يمكن أن يوجد الفعل الواحد فيهما فالقول فيهما كالقول فيما إذا اختلفا في اليمين، وإن كانتا متقاربتين كملت شهادتهم وحد المشهود عليه. وقال الشافعي: لا حد عليه لأن شهادتهم لم تكمل فأشبه ما لو اختلفا في البيتين. ولنا أنه أمكن صدق الشهود عليه بأن يكون ابتداء الفعل في إحدى الزاويتين وتمامه في الأخرى فيجب قبول شهادتهم كما لو اتفقوا على موضع واحد. فإن قيل قد يمكن أن تكون الشهادة ها هنا على فعلين فلم أوجبتم الحد والحدود تدرأ بالشبهات؟ قلنا: يبطل هذا فيما إذا اتفقوا على موضع واحد فإنه يمكن أن تكون الشهادة على فعلين بأن يكون قد فعل ذلك في الموضع مرتين ومع هذا لا يمتنع وجوب الحد فكذا ها هنا.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة النساء: الآية 15.
[2] رواه ابن ماجه في: الحدود: حديث رقم (2550).
[3] سورة الأعراف: الآية 80.
[4] رواه أبو داود في: الحدود: حديث رقم (4462).
[5] سورة النور: الآية 2.
[6] رواه مسلم في: الحدود: حديث رقم (25). وأبو داود في: الحدود: حديث رقم (4462).
[7] رواه مسلم في: الحدود: حديث رقم (12، 14).
[8] رواه أبو. داود في: الحدود: حديث رقم (4428).
[9] سورة النور: الآية 13.
http://www.iu.edu.sa/edu/thanawi/3/Fiqh/2.htm