رجوع المسلمين واحتدام المعركة
وأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عمه العباس ـ وكان جَهِيَر الصوت ـ أن ينادي الصحابة، قال العباس: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السَّمُرَة؟ قال: فوالله لكأن عَطْفَتَهُم حين سمعوا صوتي عَطْفَة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك، يا لبيك. ويذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر عليه، فيأخذ درعه، فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، فيؤم الصوت، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس واقتتلوا.
وصرفت الدعوة إلى الأنصار: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة في بني الحارث بن الخزرج، وتلاحقت كتائب المسلمين واحدة تلو الأخري كما كانوا تركوا الموقعة، وتجالد الفريقان مجالدة شديدة، ونظر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى ساحة القتال، وقد استحر واحتدم، فقال: (الآن حَمِي الوَطِيسُ). ثم أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب الأرض، فرمي بها في وجوه القوم وقال: (شاهت الوجوه)، فما خلق اللّه إنساناً إلا ملأعينيه تراباً من تلك القبضة، فلم يزل حَدُّهُم كَلِيلاً وأمرهم مُدْبِرًا.
انكسار حدة العدو وهزيمته الساحقة
وما هي إلا ساعات قلائل ـ بعد رمي القبضة ـ حتى انهزم العدو هزيمة منكرة، وقتل من ثَقِيف وحدهم نحو السبعين، وحاز المسلمون ما كان مع العدو من مال وسلاح وظُعُن.
وهذا هو التطور الذي أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} [التوبة:25، 26]
حركة المطاردة
ولما انهزم العدو صارت طائفة منهم إلى الطائف، وطائفة إلى نَخْلَة، وطائفة إلى أوْطاس، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أوطاس طائفة من المطاردين يقودهم أبو عامرالأشعري، فَتَنَاوَشَ الفريقان القتال قليلاً ، ثم انهزم جيش المشركين، وفي هذه المناوشة قتل القائد أبو عامر الأشعري.
وطاردت طائفة أخري من فرسان المسلمين فلول المشركين الذين سلكوا نخلة، فأدركت دُرَيْدَ بن الصِّمَّة فقتله ربيعة بن رُفَيْع.
وأما معظم فلول المشركين الذين لجأوا إلى الطائف، فتوجه إليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بنفسه بعد أن جمع الغنائم.
الغنائم
وكانت الغنائم: السبي ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرون ألفاً ، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بجمعها، ثم حبسها بالجِعْرَانَة، وجعل عليها مسعود بن عمرو الغفاري، ولم يقسمها حتى فرغ من غزوة الطائف.
وكانت في السبي الشيماء بنت الحارث السعدية ؛ أخت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فلما جيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت له نفسها، فعرفها بعلامة فأكرمها، وبسط لها رداءه، وأجلسها عليه، ثم منّ عليها، وردّها إلى قومها.
غزوة الطائف
وهذه الغزوة في الحقيقة امتداد لغزوة حنين، وذلك أن معظم فلول هَوَازن وثَقِيف دخلوا الطائف مع القائد العام ـ مالك بن عوف النَّصْرِي ـ وتحصنوا بها، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من حنين وجمع الغنائم بالجعرانة، في الشهر نفسه ـ شوال سنة 8 هـ.
وقدم خالد بن الوليد على مقدمته طليعة في ألف رجل، ثم سلك رسول اللهصلى الله عليه وسلم إلى الطائف، فمر في طريقه على نخلة اليمانية، ثم على قَرْنِ المنازل، ثم على لِيَّةَ، وكان هناك حصن لمالك بن عوف فأمر بهدمه، ثم واصل سيره حتى انتهي إلى الطائف فنزل قريباً من حصنه، وعسكر هناك، وفرض الحصار على أهل الحصن.
ودام الحصار مدة غير قليلة، ففي رواية أنس عند مسلم: أن مدة حصارهم كانت أربعين يوماً، وعند أهل السير خلاف في ذلك، فقيل: عشرين يوماً، وقيل: بضعة عشر، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: خمسة عشر.
ووقعت في هذه المدة مراماة، ومقاذفات، فالمسلمون أول ما فرضوا الحصار رماهم أهل الحصن رمياً شديداً، كأنه رِجْل جراد، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلاً، واضطروا إلى الارتفاع عن معسكرهم إلى مسجد الطائف اليوم، فعسكروا هناك.
ونصب النبي صلى الله عليه وسلم المنجنيق على أهل الطائف، وقذف به القذائف، حتى وقعت شدخة في جدار الحصن، فدخل نفر من المسلمين تحت دبابة.
ودخلوا بها إلى الجدار ليحرقوه، فأرسل عليهم العدو سكك الحديد محماة بالنار. فخرجوا من تحتها، فرموهم بالنبل وقتلوا منهم رجالاً.
وأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ كجزء من سياسة الحرب لإلجاء العدو إلى الاستسلام ـ أمر بقطع الأعناب وتحريقها، فقطعها المسلمون قطعاً ذريعاً، فسألته ثقيف أن يدعها للّه والرحم، فتركها للّه والرحم.
ونادى مناديه صلى الله عليه وسلم: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج إليهم ثلاثة وعشرون رجلاً ، فيهم أبو بكرة ـ تسور حصن الطائف، وتدلي منه ببكرة مستديرة يستقى عليها، فكناه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم [أبا بكرة] ـ فأعتقهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الحصن مشقة شديدة.
ولما طال الحصار واستعصي الحصن، وأصيب المسلمون بما أصيب من رشق النبال وبسكك الحديد المحماة ـ وكان أهل الحصن قد أعدوا فيه ما يكفيهم لحصار سنة ـ استشار رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي فقال: هم ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك، وحينئذ عزم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على رفع الحصار والرحيل، فأمر عمر بن الخطاب فأذن في الناس، إنا قافلون غداً إن شاء اللّه، فثقل عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتحه؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (اغدوا على القتال)، فغدوا فأصابهم جراح، فقال: (إنا قافلون غداً إن شاء اللّه) فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم يضحك.
ولما ارتحلوا واستقلوا قال: قولوا: (آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون).
وقيل: يا رسول اللّه، ادع على ثقيف، فقال: (اللّهم اهد ثقيفا، وائت بهم).
قسمة الغنائم بالجِعْرَانَة
ولما عاد رسول اللْه صلى الله عليه وسلم بعد رفع الحصار عن الطائف مكث بالجعرانة بضع عشرة ليلة لا يقسم الغنائم، ويتأني بها، يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن تائبين فيحرزوا ما فقدوا، ولكنه لم يجئه أحد، فبدأ بقسمة المال، ليسكت المتطلعين من رؤساء القبائل وأشراف مكة، فكان المؤلفة قلوبهم أول من أعطي وحظي بالأنصبة الجزلة.
أعطي أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الإبل، فقال: ابني يزيد؟ فأعطاه مثلها، فقال: ابني معاوية؟ فأعطاه مثلها، وأعطي حكيم بن حزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أخري، فأعطاه إياها. وأعطي صفوان بن أمية مائة من الإبل، ثم مائة ثم مائة ـ كذا في الشفاء ـ وأعطي الحارث بن الحارث بن كَلَدَة مائة من الإبل، وكذلك أعطي رجالا من رؤساء قريش وغيرها مائة مائة من الإبل وأعطي آخرين خمسين خمسين وأربعين أربعين، حتى شاع في الناس أن محمداً يعطي عطاءً، ما يخاف الفقر، فازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتى اضطروه إلى شجرة، فانتزعت رداءه فقال: (أيها الناس، ردوا علي ردائي، فو الذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً).
ثم قام إلى جنب بعيره فأخذ من سنامه وبرة، فجعلها بين إصبعه، ثم رفعها، فقال: (أيها الناس، واللّه مالى من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم).
وبعد إعطاء المؤلفة قلوبهم أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بإحضار الغنائم والناس، ثم فرضها على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل إما أربعاً من الإبل، وإما أربعين شاة، فإن كان فارساً أخذ اثني عشر بعيراً أو عشرين ومائة شاة.
الأنصار تَجِدُ على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
كانت هذه القسمة مبنية على سياسة حكيمة، لكنها لم تُفْهَم أول الأمر، فأُطْلِقتْ ألسنة شتي بالاعتراض.
روى ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري قال: لما أعطي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما أعطي من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وَجَدَ هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القَالَةُ، حتى قال قائلهم: لقي واللّه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول اللّه، إن هذا الحي من الأنصار قد وَجَدُوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء.قال: (فأين أنت من ذلك يا سعد؟) قال: يا رسول اللّه، ما أنا إلا من قومي. قال: (فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة). فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا. وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال: لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فحمد اللّه، وأثني عليه، ثم قال: (يا معشر الأنصار، ما قَالَهٌ بلغتني عنكم، وَجِدَةٌ وجدتموها على في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم اللّه؟ وعالة فأغناكم اللّه؟ وأعداء فألف اللّه بين قلوبكم؟) قالـوا: بلـي، اللّه ورسولـه أمَنُّ وأفْضَلُ.